من خلال قراءتنا للتاريخ فالسلطة السياسية يجب أن ترمي إلى تحقيق النفع العام وكلما تجاوزت مسؤوليتها يكون من الضروري تقييدها وخضوعها لإرادة الشعب وسيادته وعليه تصبح بين السلطة السياسية والمسؤولية توازن في العمق ولا يجب أن تشوبها اختلالات وإلا سينتج عنه شيوع للدكتاتورية وقتل للديمقراطية(نموذج العالم الثالث)، والمغرب من طبيعة الحال لم يكن خارج هذه المعادلة فلقد انخرط بدوره في هذا المسلسل و منذ مطلع القرن 20 دأبت السلطة السياسية بالمغرب على إقامة نظام دستوري تيمنا لما وصلت إليه الديمقراطيات الغربية فكانت البداية سنة 1908 تاريخ تبني أول مشروع دستوري الذي كان يتوخى منه تحديد السلطات المخولة للسلطان والمجلس الدستوري ومجلس الوزراء إلا أن هذا المشروع لم يكتب له الولادة بسبب الظروف المتلاحقة خاصة انتقال الملك من السلطان “عبد العزيز” إلى “عبد الحفيظ” وكذا إبرام اتفاقية الحماية سنة 1912، وفي عهد الملك “محمد الخامس” سيتم التأكيد على ضرورة منح دستور للبلاد وإرساء قواعد الملكية الدستورية بالمغرب ففي 1956 تم افتتاح أول دورة للمجلس الوطني الاستشاري ثم تلاه تأسيس المجلس الدستوري إلا أن تلك التجربة باءت بالفشل بسبب تشبث الأحزاب السياسية الوطنية أنداك خاصة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بانتخاب جمعية تأسيسية تسهر على وضع الدستور مما حدا بالملك للتدخل لإيجاد حل توافقي غير أنه حدث أن وافته المنية وفي ظروف حرجة 1962 والتي قيل عنها سنة الدستور والمؤسسات التمثيلية، وفي نفس السياق التاريخي فإن اشتغال المؤسسات الدستورية ظل يثير العديد من الإشكالات المتعلقة بسلطات الملك اتجاهها سواء على مستوى التقاطع أو الهيمنة ومن هنا تلوح بوادر الإشكال المتعلق بمحدودية تلك السلطات أين تبتدئ وأين تنتهي؟ ومكانتها واختصاصاتها؟، فسلطات الملك تعتمد على مشروعية رباعية:
مشروعية تعاقدية (البيعة)، مشروعية دينية (أمارة المؤمنين)،
مشروعية تاريخية (تجربة قرون)، مشروعية دستورية (القانون الوضعي)،
والتي يمكن اختزالها في مشروعين أو سلطتين دينية وسياسية:
1)السلطة الدينية (أَمَارَة الْمُؤْمِنِينَ):
إنها الرئاسة العظمى والولاية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين وسياسة الدنيا و القائم بها يسمى خليفة وإماما و هو الوالي الأعظم الذي لا والي فوقه ولا يشارك في مقامه غيره وهو ما يقصد به بإمارة المؤمنين في شريعة الإسلام ،وما يمكن استنتاجه من هذا التعريف هو أن نظام الحكم في الإسلام بدأ خلافة ثم انقلب ملكا فكيف انتقلت هذه الشرعية إلى المغرب ؟ يقول الملك الراحل “الحسن الثاني” في كتابه ( ذاكرة ملك ): (إننا لم نأتي إلى هذا البلد لنستولي على الحكم وإنما أتينا لأنه طلب منا ذلك… فقد ظن الناس أن وجود واحد من آل الرسول سيقيئهم سوء هذا البلد، وشاءت معجزة التاريخ أن يصادف وصول جدي الحسن إلى المغرب السنة التي نجت فيها تلك الواحات من الهلاك فمكثنا هنا)، فالسلطان حسب هذا الطرح يستقي مشروعيته من ذاته باعتباره غير ذي عصبية تم استدعائه للحكم في ظروف تاريخية محددة (دينيا، اقتصاديا، ثقافيا…) والتي ترسخت عبر قرون وتخللتها فترات استقرار وقوة وكذا ضعف وانهيار لكنها أي الملكية ظلت مستمرة في الزمان، فمن خلال ما تقدم يبدو أن هنالك ترابط بين الشرعية والمرجعية التاريخية أو ما يسمى بالموروث السياسي كأساس للملكية المغربية التي انتقلت خلال مرحلة الاستقلال إلى إعادة هيكلة ذاتها بحيث لا يمكن تصور وحدة وطنية بدون مؤسسة أمارة المؤمنين و هنا لا بد من الإشارة بأن الدولة المغربية هي ملكية بالأساس أكثر منها دولة أو شعب بحيث الوحدة تتمحور حول شخص الملك و ليس حول المؤسسات وهذه المقاربة أنتجت ازدواجية في منزلة الملك فهو أمير المؤمنين ورئيس دولة وبه تصبح المشروعية الدستورية مضافة، فالدستور وما يتضمنه من نصوص لا تقيد الملك بل هي كاشفة لأمر قائم في الواقع المكرس عرفيا وتاريخيا وعليه صارت الملكية بالمغرب موروث ينطلق من الماضي ويستمر في الحاضر كضرورة.
2)السلطة السياسية (الدُّسْتُور):
سنحاول في هذه النقطة الوقوف على مجمل الصلاحيات الممنوحة للملك انطلاقا من الدستور الذي ينص على أن شعار المملكة هو (الله، الوطن، الملك) فمن خلال قراءتنا لفصوله يتضح جليا بأن الحكومة المغربية المنتخبة شعبيا تبقى مسؤولة أمام الملك الذي يحظى بمكانة استثنائية في المنظومة الدستورية، فالدستور المغربي المعمول به حاليا يقر بسلطات واسعة للملك خاصة في مراقبة العمل الحكومي فدور الحكومات ونظرا للمسؤوليات التي تتحملها في ظل الأنظمة البرلمانية فما يطبع عملها هو الطابع المؤسساتي بحيث لا يمكن تصور مجهودات الحكومة إلا ضمن مشروع ينضبط لقواعد العمل المؤسساتي والذي يصب في تحقيق النفع العام و به تكون الحكومة خاضعة للمراقبة السياسية، أما في المغرب فالنظام المغربي قنن مسؤوليتها أمام سلطات الملك وذلك عبر نمطين من المراقبة التعيين والإعفاء بل تمتد هذه الوصاية -المراقبة- حتى أثناء مزاولتها لمهامها عبر المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك والذي يدرج فيه جميع القضايا المسموح بها للحكومة لتمارس فيها صلاحيتها الأمر الذي أدى إلى اعتبارها في نهاية المطاف سوى أداة لتنفيذ برنامجه هذا في الفترات العادية أما في حالة الاستثناء فإن جميع السلطات تعود للملك وحده، فجل التعديلات التي أدخلت على المسؤولية السياسية للحكومة حافظت على نفس المبتغى هو سيادة الملك على الشأن العام بل صار من الثوابت التي لا جدال فيها فللمجلس الوزاري الذي يترأسه الملك كل الصلاحية للبث في أي مشروع قانون الذي يقر فيه بشكل نهائي قبل ايداعه على أنظار البرلمان الذي يقتصر دوره على التزكية كيفما كانت توجهاته ولو إن كان لا يخدم المصلحة العامة أو يتعرض مع برنامج الحزب (الحاكم) و الذي يعتبر بمثابة ميثاق تعاقدي مع الشعب بصفة عامة.
خلاصته: ما يمكن أن نخرج به من هذا العرض الوجيز هي عبارة عن توصية تتمثل في كون سلطات الملك رغم مكانتها واختصاصاتها يجب أن تكون موضوع تداول ومساءلة تطرح على مائدة نقاش مفتوحة وبمشاركة كل الأطياف حتى تمارس كل مؤسسة سلطتها وتحاسب انطلاقا من برامجها لا من خلال التعليمات وهو ما أشار إليه الملك “محمد السادس” في أول خطاب العرش له بحيث تطرق لضرورة الوصول إلى التداول الديمقراطي حول السلطة، إلا مفهوم التداول صيغة بطريقة فضفاضة يحتمل أكثر من تفسير فغياب الدقة والتفصيل في أمور عدة (مشروع مخطط، سياسة عامة، حالة الاستثناء…) يجعل الباب مشرعا لكل الاحتمالات والتأويلات حسب مصلحة المشرع في الزمان و المكان، وفي الأخير يبقى السؤال المحوري حول الدستور المغربي في شقيه (مسطرة تشكله، صياغة بنوده، مطلب اصلاحاته) مطروحا حتى تحصل القناعة لدى السلطة السياسية بذلك.