بقلم المستشار الدكتور/ حسن بن ثابت
لا شك أن التكنولوجيا الحديثة غيرت ملامح الحياة اليومية، ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت منصةً رئيسية للتواصل والتفاعل وصناعة المحتوى. لكن وسط هذا التطور المتسارع، برزت ظاهرة خطيرة لا يمكن السكوت عنها، وهي استغلال الأطفال رقميًا، حيث يتم الزج بهم في عالم الشهرة الرقمية من أجل تحقيق مكاسب مادية، حتى وإن كان ذلك على حساب براءتهم وسلامتهم النفسية.
نشهد اليوم ممارسات غير أخلاقية تتمثل في تصوير الأطفال في مشاهد غير ملائمة، سواء من خلال دفعهم للرقص بطريقة لا تتناسب مع أعمارهم، أو إلباسهم ملابس تخرجهم من سياق الطفولة، أو وضعهم في مواقف تُثير الجدل بهدف جذب المشاهدات والإعجابات. والأسوأ من ذلك، أن بعض الأهالي أنفسهم يشاركون في هذه الظاهرة، إما بدافع الربح السريع، أو بسبب انبهارهم بالشهرة الرقمية دون إدراك العواقب الوخيمة لهذا الفعل.
النتيجة؟ تتحول الطفولة من مرحلة بريئة مليئة بالاكتشاف والتعلم إلى سلعة رقمية، حيث يصبح الطفل أداة لتحقيق التفاعل، ويفقد مع الوقت شعوره الطبيعي بالحياة. ينشأ في بيئة يرى فيها قيمته مرهونة بعدد المشاهدات والتعليقات، بدلاً من أن يُعامل ككائن مستقل له احتياجاته النفسية والعاطفية.
ما يجعل الأمر أكثر خطورة هو أن بعض الأطفال لا يملكون خيار الرفض. يتم فرض هذا المحتوى عليهم كالتزام، يُطلب منهم التصرف أمام الكاميرا بأسلوب معين، أو إظهار مشاعر مصطنعة لاستدرار التعاطف، أو حتى البكاء بشكل متعمد للحصول على تفاعل الجمهور. ومع الوقت، يتعلم هؤلاء الأطفال أن قيمتهم الحقيقية لا تأتي من شخصياتهم أو مهاراتهم، بل من مدى قدرتهم على الترفيه عن الآخرين وإثارة اهتمامهم.
هذا ليس مجرد ترفيه، بل هو استغلال صريح يجب تجريمه. فحين يتم استخدام الأطفال كأدوات للربح، فإننا أمام شكل جديد من المتاجرة بالبشر، لكنه هذه المرة أكثر خطورة لأنه يأتي بغطاء شرعي ظاهريًا، وبموافقة ضمنية من المجتمع.
تداعيات هذه الظاهرة لا تقتصر فقط على الجانب النفسي، بل تمتد إلى مخاطر أخرى. التعرض المبكر للشهرة الرقمية قد يجعل الأطفال أكثر عرضة للاستغلال من قبل جهات غير أخلاقية، كما أنه قد يُلحق بهم أضرارًا نفسية واجتماعية يصعب تجاوزها. كثير من الأطفال الذين يتم استغلالهم بهذه الطريقة يواجهون في المستقبل مشكلات تتعلق بتقدير الذات، والقلق، والاكتئاب، وصعوبة بناء علاقات اجتماعية طبيعية.
هنا يأتي دور القانون والمجتمع. لا بد من وجود تشريعات واضحة تُجرّم هذا النوع من الاستغلال، مع فرض عقوبات صارمة على أي شخص يستخدم الأطفال كوسيلة لجني الأرباح الرقمية. يجب أن تتحمل المنصات الرقمية مسؤوليتها أيضًا، من خلال وضع سياسات أكثر صرامة لمراقبة المحتوى الذي يضم الأطفال، وحذف أي مواد تنتهك حقوقهم أو تُعرضهم للاستغلال.
لكن قبل كل ذلك، يجب أن يكون هناك وعي مجتمعي حقيقي بخطورة هذه الظاهرة. على الأسر أن تدرك أن الطفولة ليست مشروعًا استثماريًا، وأن الأطفال ليسوا وسيلة لتحقيق الشهرة أو الربح. حماية الأطفال من هذا النوع من الانتهاك مسؤولية الجميع، وأي تهاون في التعامل مع هذا الأمر سيؤدي إلى تفاقم المشكلة بشكل يصعب السيطرة عليه مستقبلا.
عندما نرى أطفالًا يتم استغلالهم رقميًا أمام أعيننا، يجب أن نسأل أنفسنا سؤالًا بسيطًا: هل نقبل أن تتحول الطفولة إلى عرض ترفيهي؟ إذا كانت الإجابة بالنفي، فإن المسؤولية تفرض علينا التحرك قبل فوات الأوان.