وقف شعيرة الأضحية في المغرب .. رؤية متوازنة بين الضرورات الاقتصادية والمقاصد الشرعية

ادارة النشر28 فبراير 2025آخر تحديث :
وقف شعيرة الأضحية في المغرب .. رؤية متوازنة بين الضرورات الاقتصادية والمقاصد الشرعية

بقلم المستشار الدكتور/ حسن بن ثابت

جاء القرار الملكي بوقف شعيرة الأضحية لهذا العام في سياق يستدعي الحكمة والتدبر، وهو ليس مجرد توجيه إداري، بل استجابة واعية للواقع الاقتصادي والاجتماعي، بما يحقق مصلحة المواطنين ويحافظ على الاستقرار. إن فهم هذا القرار من منظور أوسع يتطلب استحضار البعدين الاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب النظر في مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت بالتيسير ورفع الحرج عن الأمة.

الاعتبارات الاقتصادية: التوازن بين الشعائر والواقع المعيشي

تمر العديد من الدول بتحديات اقتصادية تستوجب إعادة ترتيب الأولويات، والمغرب ليس استثناءً. ففي ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، أصبح أداء الأضحية يشكل عبئًا ماليًا على العديد من الأسر، التي قد تضطر للاستدانة أو التخلي عن ضروريات أخرى للوفاء بهذه الشعيرة. كما أن المضاربة في أسعار الماشية خلال هذه الفترة تؤدي إلى ارتفاع غير مبرر في التكاليف، ما يجعل من التدخل الحكومي ضرورة للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين وحماية الاقتصاد الوطني.

وفي هذا السياق، جاء القرار كخطوة استباقية تهدف إلى ضبط السوق وتخفيف الضغوط المالية على الأسر، مما يعكس رؤية اقتصادية رشيدة تراعي الواقع ومتغيراته، وتضع استقرار المجتمع فوق أي اعتبارات أخرى.

البعد الاجتماعي: ترسيخ قيم التكافل والتضامن الحقيقي

لطالما كانت الأضحية تعبيرًا عن التكافل الاجتماعي، حيث يُوزع جزء منها على الفقراء والمحتاجين. غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحولات في طريقة أدائها، حيث باتت عند البعض مجرد مظهر اجتماعي، وأحيانًا وسيلة للتفاخر والمزايدة، مما يخلق ضغوطًا نفسية واجتماعية على الأسر غير القادرة.

ومن هنا، فإن القرار الملكي يفتح المجال أمام نماذج أخرى أكثر استدامة للتكافل، مثل دعم الأسر المحتاجة بطرق مباشرة، وتأمين سبل عيش طويلة الأمد بدلًا من تقديم المساعدة ليوم واحد فقط.

البعد الديني: بين السنة المؤكدة وفقه المقاصد

الأضحية سنة مؤكدة في حق المستطيع، وليست فرضًا على المسلم، وهذا ما أكدته الأحاديث النبوية الشريفة. فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي” (رواه مسلم)، مما يدل على أن الأضحية مرتبطة بالاستطاعة، وليست واجبة على كل مسلم.

كما جاء في حديث آخر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “كلوا وادخروا وتصدقوا” (رواه مسلم)، وهو ما يرسّخ مفهوم الوسطية في أداء الشعيرة، ويؤكد أن الهدف منها تحقيق التكافل لا المشقة.

وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- “ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما” (متفق عليه). وفي رواية أخرى: “ذبح أحدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن أمته”، مما يدل على استحباب الأضحية، لكنها لم تكن إلزامية على كل فرد، بل تكفي أضحية واحدة عن العائلة أو حتى عن الأمة كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم.

وعليه، فإن الاجتهاد الفقهي يسمح بوقف الأضحية في ظروف استثنائية تحقيقًا لمقاصد الشريعة، التي تقوم على رفع الحرج والتيسير. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته” (رواه أحمد وابن حبان).

الحكمة في القرارات السيادية وتجنب التأويلات المغلوطة

مثل هذه القرارات قد تثير تفسيرات متباينة، بعضها يرتكز على معطيات موضوعية، بينما يجنح البعض إلى تأويلات غير دقيقة، إما بدافع الجهل أو بدوافع أخرى. غير أن الثابت أن الدولة تتخذ قراراتها وفق رؤية استراتيجية، تراعي المصالح العليا للوطن والمواطنين.

إن المغرب، كعادته، يوازن بين الحفاظ على القيم الدينية ومتطلبات الواقع، وفق نهج ينسجم مع مقاصد الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح العباد. وهذا القرار يعكس فهماً عميقاً للمرونة التي تقوم عليها الشريعة، حيث إن الأضحية ليست هدفًا في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق التكافل الاجتماعي، وإذا كانت هناك وسائل أخرى تحقق الغاية نفسها بفاعلية أكبر، فإن الاجتهاد يجيز الأخذ بها.

نحو وعي مجتمعي أكثر نضجًا

إن القرارات التي تمس الجوانب الدينية تحتاج إلى وعي مجتمعي يتجاوز النظرة السطحية، ويأخذ بعين الاعتبار السياقات المختلفة التي تؤثر في اتخاذها. فالحكمة لا تقاس بمدى الشعبية اللحظية للقرار، بل بآثاره بعيدة المدى على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

وفي النهاية، فإن المغرب يثبت مرة أخرى أنه قادر على اتخاذ قرارات سيادية تعكس وعيًا عميقًا بمصلحة شعبه، من خلال نموذج متوازن يجمع بين القيم الدينية ومتطلبات الواقع، بما يحقق الاستدامة والاستقرار.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة