الحصاد 24

القنيطري يعرفها… حكاية امرأة جنا عليها الحب.

alt=

ادريس طيطي

(ما قبل الاولى لسلسلة ستيني في مدينة البؤساء)

كنت اظن انني تركت الستيني خلفي ذلك الجزء الذي يسكنني ويقتات من الحكايات حين غادرت مدينتي الام باحثا عن الاستجمام والصفاء في مدينة اخرى. اردت ان اكون فقط ادريس الرجل العادي الاب الانسان الهش الذي يتلمس بعض الراحة وسط اسرته. لكن الستيني الذي يسكنني لا يتركني متى اردت. يكفي ان تلوح له حكاية دامية او ان يشم رائحة وجع حتى ينهض من رماده ويمسك بزمام ايامي.

هكذا بدل أن أستجم وجدتني غريبا عن نفسي. يوما أكون ادريس مع أسرتي ويوما آخر يتحرك الستيني الذي يختبئ داخلي يقتنص الحكايات من عيون الناس وصرخاتهم الصامتة. قصص واقعية لكنها قريبة من الخيال حكايات تدمي القلب وتعصره. عدت الى مدينتي الام مثقلا بصيد كثير حكايات قد لا يصدقها أحد وقلت لنفسي سأعلن هدنة. هدنة مع الليل مع الستيني مع القصص مع شعوري وإحساسي وفضولي. سأكون بقنيطرتي الحلالية اللقلاقية لاتنفس هواءها واستمسك بخيط صفاء قبل ان افرغ حقيبتي من حكايات المدينة الاخرى.

جلست في مقهى أحتسي قهوتي السمراء محاولا أن أقنع نفسي أن الهدنة ستدوم أياما. لكن هدنة الستيني لا تدوم.

فجأة انكسرت محاولتي للصمت أمامها. المرأة التي يعرفها القنيطريون جميعا. امرأة عدوانية تمشي في الشوارع بجسم نحيل تصرخ وتسب وتلوح بالحجارة او بالكؤوس لا تترك مقهى الا ومرت به. كثيرون يخافونها وكثير من النساء تجتنبها لكن من لم يعرف قصتها لم يفهم سر عدوانيتها.

ولأنني عشت تجارب مشابهة في مدن أخرى تذكرت ذلك اليوم حين كنت اجلس مع صديق في مدينة بعيدة فقال لي هل لاحظت شيئا في هذه المدينة. أجبته دون تردد نعم النساء المجنونات هنا أكثر من الرجال. كانت ملاحظة غريبة بالفعل. تعودنا أن نرى الرجل اذا جن أو صار عنيفا نقبل الأمر ونتجاوزه لكن حين تكون المرأة مجنونة أو عدوانية حين تتحول من رمز الحنان والوداعة والرقة الى صورة العنف والقسوة فإن الامر يثير الاستغراب ويترك أسئلة معلقة.

ذلك ما جعلني أنظر اليها مطولا. كيف تحولت من شابة جميلة تفيض أنوثة وحلما الى امرأة يفر الناس من طريقها.

كانت يوما فتاة يتحدث عنها الجميع جميلة الى الحد الذي يحسد فيه من يحظى بابتسامة منها او نظرة. كان لها حلم بسيط أن تبني أسرة مع من أحبته. أحبته بصدق وصدقته حين وعدها انه سيسافر الى اوروبا ليعمل ويعود كي يتزوجها ويأخذها معه. سنوات طويلة ربطت بينهما تبادلا خلالها الأمل والانتظار. لكنه حين سافر بدأت رسائله تتناقص شيئا فشيئا حتى اختفى اثره. عائلته رحلت هي الاخرى ولم يبق لها سوى الفراغ.

وفي يوم مشؤوم صادفته صدفة فعرفت الحقيقة. لقد تزوج هناك وبنى حياة اخرى وتركها تذوب في وهمها. قيل أنها ساعدته بالمال وقيل انها سلمته قلبها ,عمرها وشرفها ، لكن الأكيد ان عقلها لم يحتمل الصدمة. سقطت في هاوية لا عودة منها. انساقت نحو كل المخذرات ضاعت وخرجت الى الشارع.

منذ ذلك اليوم وهي تسير في شوارع القنيطرة بجسمها النحيل تصرخ وتسب تضرب وتهاجم كأنها تنتقم من كل العالم. الناس رأوا فيها مجنونة عدوانية لكني رأيت فيها قصة انسانية محطمة جنى عليها من كان يفترض ان يصونها.

نعم جالس في مقهاي , رأيتها تمر تصرخ وتلوح بكأس تكسرها على الارض. لم اتمالك نفسي. عاد الستيني من جديد أيقظني من هدنتي القصيرة وقال لي اكتب هذه ايضا من حكاياتك. إياك ان تظلم أحدا اياك ان تدع قسوة انسان تهدم انسانا آخر.

إن أقسى ما قد نفعله ليس ان نجرح الجسد بل أن نحطم الروح. وحين تكون الضحية امرأة مخلوقة وهبها الله الحنان والوداعة ثم تتحول الى عدوانية مجنونة عنيفة فذلك دليل على ان خلف القسوة قصة ظلم ابشع من ان يحتمل

Exit mobile version