بقلم.. المستشار الدكتور حسن بن ثابت
القاضي بالمحكمة الدولية لتسوية المنازعات
حين وقّعت بريطانيا وفرنسا اتفاقية سايكس بيكو السرية في خضم الحرب العالمية الأولى، كانت القارة الأوروبية غارقة في أهوال الحرب. لكن ما لم تدركه شعوب المنطقة آنذاك أن هذه الاتفاقية ستكون بداية عصر جديد من التفكك والصراعات، وأن الحدود التي رسمتها ستتحول إلى خطوط دم تحكمها النزاعات والحروب حتى يومنا هذا.
سايكس بيكو.. خريطة الفوضى المقنّعة
لم تكن سايكس بيكو مجرد تقسيم للأراضي، بل كانت مشروعًا استعماريًا يُحكم سيطرته على الشرق الأوسط بحدود رسمها الحكام الاستعماريون دون أدنى اعتبار للتاريخ أو الجغرافيا أو حتى الإنسان.
قُسّم الهلال الخصيب إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، حيث احتفظت بريطانيا بالعراق وفلسطين والأردن، بينما سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان.
أُهملت إرادة الشعوب، وارتبطت الحدود الجديدة بمصالح القوى العظمى التي كانت تسعى لضمان موارد المنطقة الاستراتيجية والنفطية.
ما بدأ كاتفاقية سرية انتهى إلى نظام سياسي هش قائم على الانقسام والصراعات، لتصبح المنطقة مسرحًا لصراعات طويلة الأمد.
حدود دم.. لا حدود أمان
رسمت الاتفاقية حدودًا عشوائية، لكنها كانت أكثر من مجرد خطوط على الخريطة.. كانت ألغامًا زرعتها القوى الاستعمارية في جسد المنطقة.
تفكيك المجتمعات المتجانسة.. مزقت الحدود الجديدة العشائر والقبائل، وخلقت كيانات سياسية جديدة على حساب الوحدة الاجتماعية.
صراعات طائفية وعرقية.. تركت الحدود شعوبًا متباينة ثقافيًا وطائفيًا داخل دول واحدة، مما أجج نزاعات داخلية لم تنتهِ حتى الآن.
أزمات السيادة الوطنية.. تحولت الدول الجديدة إلى كيانات تابعة للقوى الكبرى، غير قادرة على تحقيق استقلالها الحقيقي.
من سايكس بيكو إلى اليوم.. نزاعات متوارثة
لا يمكن فهم النزاعات الحالية في الشرق الأوسط دون العودة إلى جذورها في اتفاقية سايكس بيكو..
القضية الفلسطينية.. تحولت فلسطين من منطقة دولية إلى مسرح للنزاع الدولي بعد وعد بلفور، وما تلاه من تأسيس إسرائيل ونكبة الشعب الفلسطيني.
الحروب الأهلية.. النزاعات في سوريا والعراق واليمن تعكس هشاشة النظام السياسي الذي ورثته دول المنطقة من سايكس بيكو.
التدخلات الأجنبية.. كما حدث في الماضي، لا تزال القوى الكبرى تستغل انقسامات المنطقة لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي.
ما وراء التاريخ.. إعادة قراءة إرث سايكس بيكو
بعد مرور عقود طويلة، أصبح من الضروري إعادة تقييم إرث سايكس بيكو ليس فقط كمحطة تاريخية، بل كجزء من منظومة سياسية لا تزال تحكم المنطقة..
ضرورة إعادة بناء الهوية الوطنية.. لا يمكن للدول الموروثة من سايكس بيكو أن تزدهر دون خلق عقد اجتماعي جديد يحترم تنوع شعوبها.
تعزيز التعاون الإقليمي.. يجب على دول الشرق الأوسط تجاوز الانقسامات المصطنعة، والعمل على بناء نظام إقليمي قائم على الشراكة والتكامل.
إنهاء التدخل الأجنبي.. لن تنعم المنطقة بالاستقرار طالما استمرت القوى الكبرى في استغلال صراعاتها الداخلية.
مستقبل الشرق الأوسط.. هل نتجاوز الماضي؟
رغم كل ما خلفته سايكس بيكو من أوجاع، فإن الفرصة لا تزال سانحة لتجاوز إرثها.. المستقبل يتطلب إرادة جماعية لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، والعودة إلى جذور المنطقة كمنطقة حضارات متصلة لا متناحرة.
“حدود الدم” التي رسمتها سايكس بيكو ليست قدرًا محتمًا، بل درسًا يجب أن نتجاوزه.. تجاوز هذه الحدود يبدأ من الإرادة الشعبية والقيادة الواعية التي تعيد بناء الشرق الأوسط بعيدًا عن خريطة الاستعمار القديمة.