بقلم: المستشار الدكتور حسن بن ثابت
في عمق شمال إفريقيا، حيث الزراعة تُعدّ الشريان الحيوي لملايين الأسر، يحتفل الفلاحون ومجتمعاتهم ببداية الموسم الفلاحي الجديد مع بداية كل عام، معلنين بذلك بداية دورة جديدة من الأمل في محاصيل وفيرة، حيث يجسد هذا الاحتفال الرغبة المشتركة في الخير والخصوبة. ولكن، في ظل هذا الزخم الاحتفالي، يبرز تساؤل جوهري: هل هذا الاحتفال حقًا قائم على أسس تاريخية موثوقة، أم أنه مجرد تقليد مرتبط بأسطورة تمت تغذيته عبر الأجيال؟
احتفال لا يرتبط بهوية واحدة
يُعد الموسم الفلاحي مناسبة جماعية حاضرة في معظم أنحاء شمال إفريقيا، حيث يجتمع الفلاحون من مختلف المشارب الثقافية والعرقية للاحتفاء بهذا التوقيت الذي يعتقدون أنه يحمل بركات الأرض. من الجزائر إلى المغرب، مرورًا بتونس وليبيا، يُعتبر هذا الموسم فرصة لتجديد العلاقة مع الأرض، وتحفيز الأمل بموسم جيد.
موسم مشترك لجميع الأطياف: الاحتفالات لا تقتصر على فئة عرقية أو ثقافية واحدة، بل تضم مختلف الشعوب التي تتشارك في عشق الأرض.
تقاليد زراعية متجذرة: يبدأ الفلاحون في هذا التوقيت استعداداتهم للزراعة، متأملين في نجاح المحاصيل وجني الثمار، في طقوس تجمع بين العمل والاحتفال.
الأسطورة: جزء من الموروث الثقافي أم حقيقة تاريخية؟
الأسطورة المرتبطة ببداية هذا الموسم غالبًا ما تُنسب إلى الملك الأمازيغي شيشناق، الذي يُقال إنه أسس هذا التقليد بعد انتصاره في معركة مصر. لكن البحث العلمي والحقائق التاريخية لا تدعمان هذه الرواية بشكل قاطع.
أسطورة بلا أساس تاريخي: لا تشير المراجع التاريخية الموثوقة إلى وجود بداية رسمية لهذا الموسم الفلاحي على يد شيشناق. إذ أن الاحتفالات المتعلقة بالزراعة كانت سائدة في شمال إفريقيا منذ العصور القديمة.
الرمزية الزراعية الأعمق: حقيقة الأمر أن هذه الاحتفالات لا تقتصر على ارتباطها بهوية تاريخية معينة، بل هي بمثابة تجسيد لرمزية تجدد الحياة والأمل في خصوبة الأرض ونجاح الموسم الزراعي.
بين الأسطورة والواقع: التحدي الكبير
إن استمرارنا في الترويج لهذا الاحتفال على أنه ذو جذور تاريخية حقيقية قد يكون مضللاً. بينما تمتزج الأسطورة مع الواقع الثقافي، من المهم أن نفرق بين الرمزية التي تحيط بالمناسبة والحقائق العلمية.
الترويج للأسطورة خطر على الوعي الثقافي: التمسك بأساطير غير مثبتة تاريخيًا يعوق الفهم العلمي السليم ويعزز المفاهيم الخاطئة حول التاريخ.
الرمزية الزراعية لا تنحصر في أسطورة: من الأفضل أن نحتفل بهذا الموسم كرمز للأمل وللتجدد، دون الحاجة إلى الربط بأسطورة تاريخية مشكوك فيها.
المستقبل: كيف نحتفظ بالقيمة الرمزية دون التضليل؟
بينما يبقى الموسم الفلاحي مصدرًا للتفاؤل والاحتفال في شمال إفريقيا، يتوجب علينا التفكير في كيفية الحفاظ على قيمته الرمزية مع ضمان احترام المنهج العلمي والتاريخي.
الاحتفال بالتراث دون التضليل: ينبغي أن يكون الاحتفال بالموسم الفلاحي فرصة لتجديد التزامنا بالزراعة المستدامة، وتعزيز استخدام التقنيات الحديثة التي تساهم في تعزيز الإنتاجية وحماية البيئة.
دعم التنمية الفلاحية: الاحتفال بالموسم الفلاحي يجب أن يترافق مع مبادرات علمية تهدف إلى تعزيز القدرة الإنتاجية للمجتمعات الزراعية، واستخدام تقنيات مبتكرة تساهم في زيادة الإنتاج وتحسين الجودة.
ختامًا .. أهمية الفصل بين الأسطورة والواقع
إن موسم الاحتفال ببداية الموسم الفلاحي في شمال إفريقيا يمثل رمزًا ثقافيًا وتجديدًا للأمل. ورغم أن الأسطورة قد تُمثل جزءًا من هذا الاحتفال، إلا أنه من الأجدر أن نحتفظ بها كقيمة ثقافية ورمزية، دون أن نخلطها بالحقائق العلمية والتاريخية.
علينا أن نُبقي على هذه الاحتفالات كمناسبة للاحتفاء بالأرض والطبيعة، بينما نستثمر في الواقع الفلاحي الذي يرتبط بتطور العلوم الزراعية والممارسات المستدامة، لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.