بقلم: المستشار الدكتور حسن بن ثابت، القاضي الدولي رئيس مركز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتسوية المنازعات
منذ عقود، أصبحت المنطقة العربية مسرحًا لصراعات متعددة الأبعاد، تراوحت بين حروب أهلية ونزاعات إقليمية، بل وتدخلات خارجية. وإذا ما حاولنا الغوص في الأسباب الحقيقية لهذه الحروب، نجد أن جذورها تمتد إلى مراحل تاريخية طويلة ومعقدة، تنبع من تداخل عوامل سياسية، اجتماعية، واقتصادية، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية التي ساهمت في تأجيج هذه الأزمات. من هنا، يصبح من الضروري فهم هذه الأسباب بشكل أعمق كي نتمكن من التوصل إلى حلول تضمن السلام والاستقرار للمنطقة.
إرث الاستعمار: عوامل التقسيم والضعف المؤسسي
الاستعمار كان له دور محوري في تشكيل الخرائط السياسية الحالية للمنطقة العربية، فبعد انهيار الدولة العثمانية، تم تقسيم العالم العربي وفقًا لمصالح القوى الاستعمارية الغربية في اتفاقية “سايكس-بيكو” (1916). هذا التقسيم ترك أثرًا بالغًا على الهويات الوطنية وخلق حدودًا مصطنعة لم تراعِ التنوع العرقي والديني، مما أدى إلى تصاعد النزاعات على مدار العقود التالية. علاوة على ذلك، فقد ساهمت هذه السياسات الاستعمارية في غرس ضعف مؤسسي في العديد من الدول العربية، حيث عانت هذه الدول من هشاشة في أنظمتها السياسية، مما أضعف قدرتها على معالجة أزمات التنمية الداخلية أو مواجهة التحديات الخارجية.
الصراعات الأيديولوجية والبحث عن السلطة
منذ منتصف القرن العشرين، لم تكن المنطقة العربية تشهد فقط صراعات سياسية على السلطة، بل كانت تلك الصراعات تحمل طابعًا أيديولوجيًا عميقًا. النزاع بين الأنظمة الجمهورية والملكية، بالإضافة إلى التنافس بين الحركات القومية والإسلامية، خلق بيئة خصبة للنزاعات المسلحة والانقلابات. هذه التوترات الأيديولوجية لم تقتصر على التحولات الداخلية، بل كانت أيضًا مجالًا للتدخلات الإقليمية والدولية التي ساهمت في تأجيجها وزيادة تعقيدها. إن الأيديولوجيات المتناقضة كانت تسهم في تصعيد الانقسامات السياسية والاجتماعية، وهو ما أوجد حلقات من العنف المستمر في العديد من الدول.
التدخلات الإقليمية والدولية: محرك رئيسي للأزمات
لطالما كانت المنطقة العربية محط اهتمام القوى الكبرى، سواء بسبب موقعها الاستراتيجي أو بسبب مواردها الطبيعية. التدخلات الإقليمية والدولية كانت عاملاً أساسيًا في تعميق الأزمات، حيث كانت الدول الكبرى تسعى إلى توجيه سياساتها وفقًا لمصالحها، مما دفع المنطقة إلى مزيد من التأزّم. هذه التدخلات لم تكن دائمًا لصالح الاستقرار، بل ساهمت في تشكيل تحالفات ومنازعات جديدة، في محاولة لتحقيق نفوذ في مواجهة خصوم سياسيين. ما شهدناه في العراق وسوريا واليمن مثالًا على تلك التدخلات التي أعاقت أي إمكانية للتوصل إلى تسويات سلمية وعميقة، فالأطراف الدولية والإقليمية غالبًا ما تلاعبت بأوضاع المنطقة بما يخدم مصالحها، تاركة شعوبها ضحية لتداعيات هذه السياسات.
القضية الفلسطينية: جرح مفتوح في جسد الأمة
لا يمكن الحديث عن الحروب في المنطقة العربية دون التطرق إلى القضية الفلسطينية، التي تعد واحدة من أقدم القضايا التي تؤجج الصراعات في المنطقة. منذ عام 1948، شكل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين محورًا أساسيًا للنزاع العربي-الإسرائيلي، والذي ترافق مع سلسلة من الحروب التي لم تنتهِ. قضية فلسطين هي بمثابة الجرح المفتوح الذي يظل يثير الحساسيات ويعقد أي محاولة للتوصل إلى تسويات سلمية في المنطقة. وبالرغم من معاناة الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال، فقد استُخدمت القضية الفلسطينية من قبل بعض الأنظمة العربية كأداة لتوجيه الأنظار عن مشكلاتها الداخلية أو لتبرير سياساتها الخارجية، مما أضاف تعقيدًا إضافيًا على المساعي نحو السلام.
الطائفية والتطرف: أدوات لتفتيت الأمن الاجتماعي
لا يخفى على أحد أن الطائفية والتطرف قد أسهما بشكل كبير في تأجيج الأوضاع في العديد من الدول العربية. مع تصاعد الانقسامات بين السنة والشيعة، كما حدث في العراق وسوريا واليمن، أصبحت هذه الانقسامات ساحة للصراعات الإقليمية، مما أدى إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وإضعاف القدرة على بناء وطن موحد. وبينما كانت الجماعات المتطرفة مثل “داعش” و”القاعدة” تُمثل تهديدًا بالغ الخطورة، استغلت هذه الجماعات الفراغ الأمني والسياسي لتوسيع نطاق نفوذها، متاجرة بالصراعات الطائفية لتغذي نزعاتها الإرهابية.
الربيع العربي: آمال في التغيير وتحولات مأساوية
منذ عام 2011، جاءت الحركات الاحتجاجية التي عُرفت بالربيع العربي لتعبر عن رغبة الشعوب العربية في التغيير والإصلاح. ومع ذلك، لم يكن مسار الربيع العربي خاليًا من التعقيدات، فقد تحولت الكثير من هذه الثورات إلى حروب أهلية أو أزمات مستمرة. الفشل في تأسيس أنظمة سياسية ديمقراطية ومستدامة، بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية والدولية، جعلت من بعض الدول مسرحًا لصراعات لا تنتهي. ومع أن الشعوب كانت تسعى إلى الحرية والعدالة، إلا أن هذه الأهداف لم تتحقق كما كان مأمولًا.
نحو الإصلاحات الجذرية: مدخل لتحقيق الاستقرار
إن الحلول الفعّالة لمعالجة الحروب والصراعات في المنطقة العربية لا يمكن أن تكون سطحية أو مؤقتة. تحتاج المنطقة إلى إصلاحات جذرية على مختلف الأصعدة، سواء في المجال السياسي أو الاجتماعي. يجب تعزيز سيادة القانون، بناء مؤسسات ديمقراطية قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز التنمية الاقتصادية التي تأخذ في اعتبارها حقوق جميع الفئات الاجتماعية. إذا ما أُتيح للمنطقة فرصة لخلق ثقافة من الحوار والمصالحة، فإن ذلك يمكن أن يساهم بشكل كبير في تحقيق استقرار دائم.
الخاتمة: أفق جديد للسلام في الأفق؟
الحروب في المنطقة العربية ليست قدرًا حتميًا، بل هي نتيجة لتراكمات تاريخية وسياقات سياسية معقدة يمكن معالجتها إذا توافرت الإرادة. إن تحقيق السلام في المنطقة لا يتحقق عبر تسويات سطحية أو تدخلات عسكرية، بل من خلال إصلاحات بنيوية حقيقية تعالج الأسباب الجذرية للأزمات. على العالم العربي أن يدرك أن الاستقرار ليس ترفًا، بل ضرورة لبناء مستقبل مشترك تسوده العدالة والرخاء.