ستيني في ليل المدينة واقع اشد من الخيال.

ادارة النشر8 أغسطس 2025آخر تحديث :
ستيني في ليل المدينة واقع اشد من الخيال.

ادريس طيطي

الخيال الواقعي الثالث والثلاثون

احيانا لا نكتب لنثير الحنين، ولا نحكي لنبهر أحدا بحجم الألم أو بسعة الخيال بل نكتب لأننا لا نجد وسيلة اخرى لنتنفس
هناك لحظات لا يحتملها الصدر ولا يسعها القلب فتفيض على الورق
حين اتكلم لا اتكلم فقط بلساني بل بلسان كل من سكن شوارع المدينة ومشى وسط الجوطية وجلس على رصيف الانتظار،
حين احكي لا احكي فقط ما رايته بل ما عشته وما انطبع في وجداني من جراح الاخرين من وجوه انهكها الصمت
فمن اقترب من الالم ادرك ان الخيال احيانا يبدو ارحم من الحقيقة
الواقع ليس كما تتصوره الشاشات ولا كما تنقله عدسات البوز
الواقع اشد من الخيال

اعرف ان بعضكم حين يقرأ يتساءل في سره
معقول هل عاش هذا الطيطي او ذاك الستيني كل هذه الحكايات؟؟
هل هذا واقع ام خيال نسج بخبرة روائية
لكنني دعوني أكون واضحا
لم اعد أميز بين ما عشته فعلا وما ظل يسكنني حتى صار حقيقيا اكثر من الواقع

أنا لست الستيني أو ربما انا هو
وربما نحن معا مجرد ظل لمدينة تغيرت ملامحها واحتفظنا نحن بذاكرتها
انا من يكتب أحيانا بالخيال الرابع وأحيانا بالواقع الخامس
وأحيانا يقول الخيال الواقعي
هي محاولات مضطربة لأفهم العالم من حولي
لأعطي لكل حكاية إسما يناسب وجعها
لأمنح للقسوة رتبة وللدهشة مكانا

اتذكر جيدا ذلك اليوم حين ضاق صدري فخرجت من بيتي هائما
مشيت لا اعرف الى اين كأنني اهرب من شيء بداخلي
مررت من ازقة كنت اعرفها لكنها لم تعد تعرفني
ثم رأيتهم
نعم وجوه ما زالت تشرح المعنى الحقيقي لكلمة انكسار
رجال في عمر ابائنا نساء بعمر امهاتنا يجلسون في دور العجزة
لا ينتظرون شيئا سوى سؤال منسي او نظرة حنان تبعث الحياة في وجوههم المجعدة

كم هو موجع ان ترى رجلا كان ذات يوم ملاذا لعائلته
يتحول الان الى مجرد رقم في جناح العجزة
يجلس في صمت ووجهه يسأل دون صوت
اين ذهبوا لماذا نسوني
وامراة ملامحها تنطق بانها اعطت كل ما تملك ولم تأخذ شيئا سوى الجدران الصامتة

وفي ليال باردة لا يغلق فيها البرد نوافذ البيوت فحسب
بل يغلق الرحمة في قلوب البعض
تجد من يخرج ليمنح الدفء لمن لفظتهم الارصفة
بعضهم اطفال بعضهم شيوخ كلهم ينتظرون غطاء ولو مؤقت
انا س يعيشون بلا عنوان بلا باب بلا سند

وان مررت بالجوطية سترى مشاهد لا تنساها
رجل يبيع بقايا متاعه فقط ليعود لاطفاله بشيء
واخر يجلس قرب بضاعة قد لا يشتريها احد لكن كرامته تملي عليه الا يمد يده
اذكر انني كنت مع ابني حين اشتريت غرضا لا قيمة له من بائع متعب
فقط لان عينيه كانت تصرخ ساعدني دون ان تذلني
سألني ابني لماذا اشتريته
فقلت اشتريت كرامته وليس غرضه

في كل هذه اللحظات تتهاوى كل القصص الخيالية
وتبدو الافلام المصطنعة تافهة امام مشهد صادق واحد في الزقاق
ان كنت تظن انني ابالغ او اختلق او امارس الحنين كهواية
فلك ان تنزل بنفسك
فقط انزل
سر على الرصيف اقترب من الوجوه واستمع
صدقني ستتمنى لو ان كل ما كتبته كان خيالا فقط

لكن لا
هذا واقع
واقع اشد من الخيال

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة