الحصاد24
فجأة، انتابني شك غريب، وقلت في نفسي: ما الذي يُمكن أن تُخبرنا به ولم نعرفه بعد؟ المشهد كان واضحًا: ميكروفونات متعددة تتسابق نحوها من كل اتجاه، لكنها رفضت الإدلاء بأي تصريح بوجود أحد الصحفيين، دون أن تذكر اسمه أو مؤسسته، وبرّرت موقفها بقولها: “منين تكونوا كتحترمو الفنان، نحترموكم”.
وعندما تمسك الصحفي بمكانه، قابلته بلهجة قاطعة: “حيّد عليّ هادشي!”، ثم سحبت الميكروفون من يده في مشهد لا يليق بالعمل الإعلامي، بل بدا كأنه لقطة تمثيلية مدروسة بعناية لخلق “البوز”.
فجأة، وجدتُ نفسي معنيًّا بهذا المشهد دون أن أكون طرفًا فيه، بعدما جرى تداوله على نطاق واسع بين متابعين، بعضهم عن حسن نية، وآخرون كانت لهم يد فيه بحكم ولعهم بمثل هذه المشاهد والمواضيع… فكما يُقال: كل زرع يجيب الله كيالو.
لكن لنكن منصفين: لا يمكن تحميل الفنانة المسؤولية الكاملة عمّا حدث، فهي وجدت نفسها محاصَرة بالمكروفونات من كل اتجاه. طبيعي أن تصدّق الصورة التي تُرسم حولها، وطبيعي أيضًا أن تشعر بأنها شخصية مهمة، وأن لها دورًا في “تنوير الرأي العام” كما يُقال، حتى وإن لم يكن في جعبتها أي ألبوم فني أو مضمون فعلي جديد. هي الأخرى ضحية مشهد أصبح يخلط بين الظهور والجوهر، وبين المعلومة والصدى.
جرّني الفضول، بصفتي إعلاميًا قبل كل شيء، وأنا أرى مهنة الصحافة تُهان على مرأى ومسمع الجميع. تحسّرت وقلت: أين أولئك الذين يحملون الصفة القانونية والمؤسساتية ليقولوا: لا، ثم لا، وألف لا… لن نسمح بأن تُهدَر كرامة هذه المهنة النبيلة، ولن نقبل أن يُبهدَل شرفها من طرف من يجهل قيمتها.
صرنا نعيش زمنًا يُقدَّم فيه من لا يفرّق بين الألف والزرواطة على أنه “صانع محتوى”، فقط لأنه يُتقن الظهور في لحظات التوتر المفتعلة. صحيح أن الدولة كانت حازمة مع من خرج عن القانون، لكنها مطالبة اليوم أيضًا بأن تحاسب من يفتح الطريق لهذا الانحدار، من يُنصب نفسه إعلاميًا، ومن يوزع الميكروفونات كما تُوزع بطائق الحظ.
بعض هذه المنابر لم تعد تحترم حتى أبسط قواعد المهنة، صارت تُطارد “الترند”، لا الحقيقة. تبني شهرتها على الصراخ، لا على المعلومة. على الاصطدام، لا على التحليل.
ما نحتاجه اليوم ليس ميكروفونات أكثر، بل مهنية أعمق. ليس ضجيجًا إضافيًا، بل صوتًا مسؤولًا. وليس لحظات “بوز” عابرة، بل رسائل صادقة تحترم عقل المتلقي وتليق بمهنة شُيّدت على أخلاقيات رفيعة، لا على مشاهد مُبتذلة.
