شهادة لتبرئة الذمة

ادارة النشر2 يناير 2014آخر تحديث :
شهادة لتبرئة الذمة
حمدي قنديل

والدى كان أزهرياً، ثم التحق بكلية دار العلوم قبل أن يسلك مهنة التعليم، أما والدتى فلم تكن متحجبة.. أذكر أنها كانت دائما أنيقة وكأنها عارضة أزياء، فى حين أن والدها، جدى، كان معمما منذ دخل المدرسة حتى أصبح عضواً فى المحكمة العليا الشرعية.. تربيت فى بيت «يعرف ربنا»، يعمر المساجد ويعمّر فى الأرض ويعامل الناس بالحسنى..

عندما كنت طالباً بالثانوية فى طنطا كان بطلى الأسطورى هو لطفى فطيم.. كان فى الثلاثينيات من عمره، وكان جارا لنا، لفت نظرى بزيارات «البوليس السياسى» المتكررة له، واختفائه لأيام أو شهور بين حين وآخر.. عندما زرته فى بيته لأول مرة همس لى بأنه شيوعى وأعطانى محاضرة موجزة، تذكرت منها عبارتين براقتين، «العدالة الاجتماعية» و«المساواة بين البشر».. لما قلت لأبى ما سمعت قال إن ذلك كله فى الإسلام، وطلب منى أن أستعد فى عصر اليوم التالى ليصطحبنى إلى جمعية «الشبان المسلمين».. سألته: الشبان أم الإخوان؟.. أذكر ما قال.. «لا، الإخوان شداد شوية»..

ربما كان يعنى متشددين، أو ميالين للعنف، خاصة أن الأنباء كانت تتواتر عندئذ عن مقتل النقراشى، رئيس الوزراء، واللواء سليم زكى، حكمدار العاصمة، على أيديهم.. كان رائد أسرتى فى «الشبان المسلمين» هو العزيز المرحوم إبراهيم مصطفى الذى دربنى على تنس الطاولة وزادنى علما بالدين.. كان ينظم لنا معسكرات كشفية فى صحراء حلوان كل عدة أشهر، ويأخذنا إلى أفلام مختارة فى دور السينما بالقـاهرة، أظـن أن أولها كان فيلم «ذهب مع الريح»..

أثناء دراستى الجامعية بالقاهرة قمت بتمثيل دور كوميدى تافه على مسرح كلية طب قصر العينى، ولعبت الهوكى والتحقت بالحرس الوطنى أثناء عدوان 56 وكتبت للصحافة.. كان أبى فى صيف كل عام يحجز لى تذكرة على سطح الباخرة إلى أوروبا ويعطينى 50 جنيهاً إسترلينى ويطلب منى ألّا أعود قبل شهر.. اعتدت السفر مع اثنين من الأصدقاء، زرت معهما معظم بلدان أوروبا، وفى سنة 1955 سافرت إلى سويسرا مع 40 من طلبة وطالبات الجامعات بدعوة من «جمعية التسلح الخلقى العالمية» وهى جماعة ثبت فيما بعد أنها مشبوهة وأغلق مكتبها فى القاهرة.. اكتشفنا زيف ما يلقنونه لنا، وتحققنا، بعد نقاش مطول فيما بيننا، ربما لأول مرة، أن كل قيم الأخلاق موجودة فى الإسلام.. كتبت مع ثلاثة من الزملاء، بينهم المرحوم مأمون أبوشوشة، مسرحية عن إسلام عمر بن الخطاب، ترجمها إلى الإنجليزية زميل مسيحى، وقمت فيها بدور عمر رضى الله عنه.. لاأزال أذكر اللحظة التى رفعت فيها السيف على شقيقتى فاطمة لما علمت بأنها دخلت الإسلام فضاع الكلام تماماً من ذاكرتى..

مرت السنوات والتحقت بالتليفزيون.. كنت ولاأزال مؤمنا بزعامة عبدالناصر.. فى 1965 اكتشفت مؤامرة الإخوان المسلمين الشهيرة عليه التى أعدم فيها من أعدم، ودخل السجون مئات.. روى لى المشير عامر فى بيته بالحلمية التفاصيل، وفى السجن الحربى قمت بإجراء أحاديث مع المعتقلين، أذيع عدد منها فى التليفزيون.. راجت فى بعض مؤلفات الإخوان بعدئذ أكذوبة أنى كنت أطلب من ضباط السجن أن يبدلوا المعتقلين الذين كنت أستجوبهم بآخرين حتى أحصل على اعترافات صريحة..

مرت سنوات أخرى، ذهب معها عنفوان الشباب، وفى لحظة حساب مع النفس، أيقنت أنى ارتكبت خطأ مهنياً وأخلاقياً باستجواب معتقلين قيدت حريتهم فاعتذرت علنًا وقَبِل الإخوان اعتذارى بامتنان.. كنت قد التقيت عدداً منهم فى الثمانينيات والتسعينيات، واقتربت منهم أكثر وأكثر عندما انضممت إلى حركة المعارضة.. أذكر أنى كنت أحضر دائماً مناسبات خروج أقطابهم من السجن مثل د. عبدالمنعم أبوالفتوح ود. جمال حشمت ود. عصام العريان.. وفى برنامج «قلم رصاص» الذى كنت أقدمه من تليفزيون دبى، حاورت عدداً من زعمائهم، بينهم الأستاذ مهدى عاكف، والدكتور محمد حبيب الذى استضفته فى الإمارات، قبل خروجه على الجماعة..

غادرت دبى فى 2009 لأقيم نهائياً فى القاهرة، حيث شاركت فى تأسيس «الجمعية الوطنية للتغيير» بعد وصول الدكتور البرادعى فى 2010.. وقتها التحق بنا الإخوان الذين انتدبوا لنا الدكتور العريان ربما بسبب قدرته البارعة على المناكفة، والدكتور البلتاجى الذى ميزته ابتسامته البلاستيكية الشهيرة.. أشهد أن الإخوان وقتها جمعوا أكثر من 700 ألف توقيع لمطالب التغيير السبعة وفتحوا مقار نوابهم فى المحافظات لمؤتمرات الجمعية.. مع ذلك فقد كانت مشاركتهم دائما بالقطّاعى، يحضرون وقت الحاجة ويختفون عند اللزوم ويتبنون ما يروق لهم من قرارات.. الشرخ الأكبر كان عندما قرروا منفردين خوض انتخابات مجلس الشعب السابقة للثورة، التى كانت الجمعية قد قررت مقاطعتها حتى لا تضفى شرعية زائفة على إرادة الشعب.. فى لقاء مع المرشد وفريق من أعضاء مكتب الإرشاد، حاولت مع د. عبدالجليل مصطفى ود. حسن نافعة أن نثنيهم عن المشاركة دون طائل..

مرة أخرى، خرج الإخوان على الإجماع القومى يوم 25 يناير مكتفين بإيفاد البلتاجى إلى التجمهر أمام دار القضاء العالى، وما إن التحقوا بالثورة عصر يوم 28 حتى ذهبوا للتفاوض سرا مع عمر سليمان، وتوج اتفاقهم مع العسكر باستفتاء 19 مارس الذى شق صفوف الثوار.. فى حين كان الكل مشغولاً بدفع الثورة خطوة هنا أو خطوة هناك، كانوا هم يستعدون لاقتناص مجلس الشعب الذى كانوا قد وعدوا بأنهم لن يترشحوا على أكثر من 30% من مقاعده، وعندما استولوا عليه بدأوا فى ترويج شعار «البرلمان لا الميدان»، ميدان التحرير.. غابوا بعدئذ عن الميدان فى مواجهاته مع حكم العسكر فى محمد محمود ومجلس الوزراء وما بعدهما، ثم عادوا يخطبون وده قبيل انتخابات الرئاسة التى كانوا قد أعلنوا أن الجماعة لن تخوضها..

انتخبت حمدين صباحى فى الجولة الأولى وقاطعت الجولة الثانية فى الوقت الذى انشغلت فيه كل القوى المدنية بطرح «وثيقة عهد» على «مرسى» و«شفيق» لضمان قيام دولة مدنية إذا ما فاز أحدهما، لكنهما قابلا الوثيقة بالصمت.. فى الساعات الأخيرة قبل إعلان النتيجة تصاعدت المخاوف من تفضيل العسكر لـ«شفيق»، فذهبت مع عدد من رموز العمل الوطنى وشباب الثورة البارزين إلى لقاء مرسى فى فندق «فيرمونت» الذى عرف به الاتفاق الذى أبرمناه معه لإقامة دولة ديمقراطية حديثة فى حال نجاحه..

أعلن مرسى بنفسه وأعلنا معه تفاصيل الاتفاق على الشعب: المواطنة، الحريات، الشفافية، دولة القانون، مشاركة كل القوى وتمثيلها فى الرئاسة بنواب من الشباب والنساء والأقباط.. يومها، تحالفنا مع الإخوان المسلمين فى «الجبهة الوطنية لحماية الثورة»..

ولكن مرسى، الرئيس، نكث بمعظم ما ورد فى عهد مرسى المرشح، وانساق وراء الجماعة، وتغافل عن تمكينها من مفاصل الدولة، وسكت على اعتدائها على المتظاهرين فى التحرير يوم 12 أكتوبر الماضى، واعتدائها على المعتصمين فى الاتحادية فى 5 ديسمبر..

منذ أن شكلت وزارة قنديل على نحو مخالف لبنود إعلان «فيرمونت»، أحسسنا فى الجبهة بالخديعة، وأعلنّا احتجاجنا فى مؤتمر بساقية الصاوى.. بدأ الحكم بعد ذلك يتخبط فى قراراته، ويفشل فى مواجهة الأزمات واحدة بعد أخرى، فى حين ظلت الاتصالات مع الرئاسة فى معظم الأوقات فى اتجاه واحد، حتى وصلنا إلى النهاية المحتمة: تعليق الجبهة، قبل فضائح التأسيسية والدستور والإعلانات الدستورية.. استبقت هذا النهاية الدرامية بنعى الشراكة إلى الرئيس، واعتذرت للناس الذين خدعتهم بوقوفى مع مرسى بعد أن عصرت كل الليمون المتاح..

ما أريد أن أقوله فى النهاية هو أننى واحد من ملايين المسلمين فى مصر، شأنى شأنهم، لا أنتظر من الإخوان أو أحد من شركائهم أن يعلمنى دينى السمح الحق الجميل الذى تعلقت به فى غدوى ورواحى.. ولا أحد يستطيع أن يزايد علىّ بعد أن خطوت على الدوام الخطوة الأولى تجاه الجماعة ومنحتها ثقتى حتى بعد أن تنكرت مرات للعهود..

هذا يكفى.. هذه الجماعة ليس لها عهد.. هى جماعة مراوغة، مناورة، لا تبتغى سوى صالحها.. الكلام عن صالح مصر مجرد أكاذيب.. هو تغطية لمؤامرة على مصر، نشهد تفاصيلها الآن ساعة بساعة، بخطوطها الممتدة إلى أمريكا الملتبسة مع إسرائيل.. وهى، قبل هذا وذاك، لا تملك شيئاً لتقدمه إلى مصر، لا المال ولا الخبرة ولا الدراية بشؤون الحكم.. هى جماعة خطرة على مصر وخطرة على الثورة بأهدافها السياسية وتوجهاتها الاقتصادية اليمينية، وبقاؤها فى سدة الحكم لعنة سوف تنتهى بكارثة.. هذه شهادتى أبرئ بها ذمتى..

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة